فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (35):

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}
وقوله تعالى: {إِنَّ المسلمين والمسلمات...} الآية: رُوِي في سَبَبهَا؛ أَنَّ أُمُّ سَلَمَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولُ اللّهِ، يَذْكُرُ اللّهُ تَعَالَى الرِّجَالَ فِي كِتَابِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يَذْكُرُنَا، فَنَزَلَتْ الآيةُ فِي ذَلِكَ، وألفاظ الآية في غاية البيان.
وقوله سبحانه: {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات...} الآية. وفي الحديث: الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: «سَبَقَ المُفَرِّدُون قالُوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ، يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ» رواه مسلم، واللفظ له والترمذيُّ، وعنده: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، وَمَا المُفَرِّدُونَ؟ قَالَ: «المُسْتَهْتِرُونَ فِي ذِكْرِ اللّهِ، يَضَعُ الذِّكْرُ عَنْهُمْ أَثْقَالَهُمْ فَيَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِفَافاً». قال عياض: والمُفَرِّدون ضَبَطْنَاهُ على مُتْقِني شيوخِنا بفتح الفَاء وكَسرِ الراء.
وقال ابن الأعرابي: فَرَّدَ الرجلُ إذا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ، وخلا لمُرَاعاة الأمر والنهي، وقال الأزهريُّ: هم المُتَخَلُّونَ مِنَ النَّاسِ بذكْرِ اللّه تعالى، وقوله المُسْتَهْترون في ذكر اللّه هو بفتح التاءين المثناتين يعني: الذين أُولِعُوا بذكْرِ اللّه، يقال: استهتر فلانٌ بكَذَا، أي: أُولِعَ به، انتهى، من سلاح المؤمن.

.تفسير الآية رقم (36):

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)}
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة...} الآية: قوله: {وَمَا كَانَ} لفظه النفي، ومعناه الحظرُ والمنعُ والخيرةُ مصدرُ بمعنى التَّخَيُّر.
قال ابن زيد: نزلت هذه الآية بسبب أن أم كُلثُوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهبت نفسها للنبي، فزوجها من زيد بن حارثة، فكرهت ذلك هي وأخوها، فنزلت الآية بسبب ذلك، فأجابا إلى تزويج زيد، وقيل غير هذا، والعصيانُ هنا يعم الكفرَ فما دون، وفي حديث الترمذيِّ؛ عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّه قال: «مِنْ سَعَادَةِ ابن آدَمَ رِضَاهُ بِمَا قَضَاهُ اللّهُ، وَمِنْ شَقَاوَةِ ابْنِ آدَمَ سَخَطُهُ بِمَا قَضَاهُ اللّهُ لَهُ» انتهى.

.تفسير الآية رقم (37):

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)}
وقوله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ...} الآية. ذهَب جماعة من المتأوِّلينَ إلى أن الآيةَ لا كَبيرَ عَتْبٍ فيها على النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فَرُوِي عن علي بن الحسين: أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد أُوحِيَ إليه أنَّ زيداً يطلق زينب، وأنه يتزوجها بتزويج اللّه إياها له، فلما تشكى زيد للنبي صلى الله عليه وسلم خُلُقَ زينبَ، وأنَّها لا تطيعه، وأعلمَه بأنه يريد طلاقها، قال له النَّبِي صلى الله عليه وسلم على جهة الأدب والوصيةِ: {اتَّقِ اللّهَ- أي: فِي قَوْلِكَ- وأمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُفَارِقُهَا وَهَذَا هو الذي أخفى صلى الله عليه وسلم فِي نفسهِ ولم يردْ أن يأمره بالطلاق لِمَا عَلِمَ مِنْ أَنَّه سيتزوجها وخَشِي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قولٌ من النَّاس، في أن يتزوجَ زينب بعدَ زيد، وهو مولاه وقد أمره بطلاقها، فعاتبه اللّه على هذا، القدر من أن خَشِي الناس في شيء؛ قد أباحه اللّه تعالى له.
قال عياض: وتأويل علي بن الحسين أحسن التأويلات وأصحها، وهو قول ابن عطاء، وصححه واستحسنه، انتهى.
وقوله: {أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} يعني بالإسلام وغير ذلك {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} يعني بالعِتْقِ، وهو زيد بن حارثة وزينب هي بنت جحش بنت أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؛ ثم أعلم تعالى نبيه أنه زَوَّجَها منه لما قَضَى زيدُ وطرَه منها؛ لتكون سنةً للمسلمينَ في أزواج أدعيائهم وليُبَيِّنَن أنها ليست كحرمة البنوة، والوطرُ: الحاجَةُ والبُغْيَةُ.
وقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً}: فيه حذفُ مضافٍ تقديرُه وكانَ حكمُ أمرِ اللّه أو مُضَمّنْ أمْرِ اللّه وإلاّ فالأمر قديمٌ لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل وعبارة الواحديِّ: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} أي: كائناً لا محالةَ، وكان قَد قضى فِي زينبَ أن يتزوجها رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم. انتهى.

.تفسير الآيات (38- 39):

{مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)}
وقوله تعالى: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ...} الآية: هذه مخاطبةٌ من اللّهِ تعالى لجميعِ الأمة؛ أَعلمهم أَنه لا حرجَ على نبيه في نَيْل ما فَرَضَ اللّهُ له وأباحَهُ من تزويجهِ لزينبَ بَعْد زيد، ثم أعلم أن هذا ونحوه هو السنن الأقدم في الأنبياء، من أن ينالوا ما أحله اللّه لهم، وعبارة الواحدي: {مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ} أي: أحل اللّه له من النساء. {سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}، يقول: هذه سنة قَد مضت لغيركِ؛ يعني كثرةُ أزواج داودَ وسليمان، عليهما السلام، {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} قضاءٍ مقضياً. وقوله تعالى: {الذين يُبَلّغُونَ رسالات الله} من نَعْتِ قوله: {فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ}، انتهى.

.تفسير الآيات (40- 44):

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}
وقوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} إلى قوله {كَرِيماً} أذهَب اللّه بهذه الآية مَا وَقَعَ في نفوسِ المنافقين وغيرِهم؛ لأنهم استعظموا أن يَتَزَوَّجَ زَوْجَة ابْنِه، فنفى القرآنُ تلكَ البُنُوَّةَ، وقوله: {أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} يعني المعاصرين له وباقي الآية بيِّن. ثم أمر سبحانه عباده بأن يذكروه ذكراً كثيراً، وجعل تعالى ذلك دون حَدٍّ ولا تقدير؛ لسهولته على العبد، ولعظم الأجر فيه. قال ابن عباس: لم يُعْذَرْ أَحدٌ فِي تركِ ذكر اللّهِ عز وجل إلاَّ مَنْ غُلِبَ عَلى عَقْلِهِ، وقال: الذكرُ الكثيرُ أن لا تنساه أبداً.
ورَوَى أبو سعيد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم «أَكْثِرُوا ذِكْرَ اللّهِ؛ حتى يَقُولُوا: مَجْنُونٌ» * ت *: وهذا الحديثُ خرَّجه ابن حِبَّان في صحيحه.
وقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أراد في كل الأوقاتِ فحدَّد الزمَنَ بطرَ في نهارِه ولَيْلِه، والأصيل من العَصْر إلى الليلِ، وعن ابن أبي أوفى قال: قال، رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللّهِ» رواه الحاكم في المستدرك، انتهى من السلاح.
وقوله سبحانه: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وملائكته}: صلاةُ اللّه على العبدِ هي رحمتُه له، وصلاة الملائكة هي دعاؤهم للمؤمنين. ثم أخبر تعالى برحمته بالمؤمنين تأنيساً لَهُم.
وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سلام} قيل: يوم القيامة تُحَيِّ الملائكةُ المؤمنين بالسلامِ، ومعناه: السلامةُ من كل مكروهٍ، وقال قتادة: يوم دُخولِهم الجنَّةِ يحي بعضُهم بعضاً بالسلامِ، والأجرُ الكريمُ: جنة الخلدِ في جوار اللّه تبارك وتعالى.

.تفسير الآيات (45- 49):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)}
وقوله تعالى: {ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشِّراً...} الآية، هذه الآيةُ فيها تأنيسٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وتكريم لجميعهم.
وقوله: {وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ} أي: بأمره {وَسِرَاجاً مُّنِيراً} استعارةُ للنور الذي تَضَمَّنهُ شرعُه.
وقوله تعالى: {وَبَشِّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً}.
قال * ع *: قال لنا أبي رحمه اللّه: هذه الآيةُ من أرجى آية عندي في كتاب اللّه عز وجل.
قال أبو بكر الخطيب أخبرنا أبو نعيم الحافظ ثم ذكر سنده إلى ابن عباس قَال: قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «أنَزَلت علي آية {ياأيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال: شاهداً: على أمتك، ومبشراً: بالجنة، ونذيراً: من النار، وداعياً: إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه، بإذنه: بأمره، وسراجاً منيراً: بالقرآن» انتهى، من تاريخ بغداد له، من ترجمة محمد بن نصر.
وقوله تعالى: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} يحتمل أن يريدَ أن يأمره تعالى بترك أن يؤذِيهم هو ويعاقبهم، فالمصدر على هذا مضافٌ إلى المفعول، ويُحْتَمَلُ أن يريدَ: أعْرِض عَن أقوالهم وما يؤذونك به، فالمصدر على هذا التأويل مضاف إلى الفاعل؛ وهذا تأويل مجاهدٍ، وباقي الآية بيّن.

.تفسير الآية رقم (50):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)}
وقوله تعالى: {ياأيها النبي إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك...} الآية، ذهب ابن زيد والضحاكُ في تفسير هذه الآية إلى: أن اللّه تعالى أحل لنبيه أن يتزوجَ كل امرأة يؤتيها مَهْرَها، وأباح له كلَّ النساء بهذا الوجه، وإنما خَصَّصَ هؤلاءِ بالذكر تشريفا لهن فالآيةُ على هذا التأويلِ فيها إباحةٌ مُطلقةُ في جميع النساء، حاشى ذوات المحارم المذكور حُكْمُهُنَّ: في غير هذه الآية. ثم قال بعد هذا {تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ} أي: من هذه الأصناف كلها، ثم تجرى الضمائرُ بعد ذلك على العُموم إلى قوله تعالى: {وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ} [الأحزاب: 52] فيجيءُ هذا الضميرُ مقطوعاً من الأول عائداً على أزواجه التسعِ فقط؛ على الخلاف في ذلك وتَأَوَّيل غير ابن زَيْدٍ في قوله: {أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك} مَنْ فِي عِصْمَتِهِ ممن تَزَوَّجَها بِمَهْرٍ؛ وَأَنَّ مِلْكَ اليمينِ بَعْدُ حلالٌ؛ وأن اللّهَ أباحَ له مع المذكُوراتِ بَنَاتِ عَمِّهِ وعماتِه، وخاله، وخالاته، ممن هاجرَ معَه، والواهباتِ خَاصَّةً، فيجيءُ الأمرُ على هذا التأويل أَضْيَقَ عَلى النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤيدُ هذَا التأويلَ ما قَالَه ابنُ عباس: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَزَوَّجُ في أَيِّ النِّسَاءِ شَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ يَشُقُّ على نِسَائِهِ، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ، وحُرِّم عَلَيْهِ بِهَا النِّسَاءُ؛ إلاَّ مَنْ سُمِّيَ سُرَّ نِسَاؤه بذلك.
وقوله سبحانه: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ...} الآية، قال السُّهَيْلِيُّ: ذكرَ البخاريُّ عَن عائشَة رضي اللّه عنها أنَّها قَالَتْ: كَانَتْ خَوْلَةُ بنتُ حَكِيمٍ مِن اللاتي وَهَبْنَ أنفسَهن؛ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فدَلَّ على أنهن كُنْ غَيْرَ واحدة، انتهى: وقوله: {خَالِصَةً لَّكَ} أي: هبة النساء أنفسهن خاصةٌ بك دونَ أمَّتِكَ.
قال * ع *: ويظهرُ من لفظِ أُبَيِّ بن كَعْبِ أن معنى قوله: {خالصة لك} يُرَادُ بهِ جميعُ هذهِ الإبَاحَة؛ لأن المؤمنين لم يُبَحْ لهم الزيادةُ على أربعٍ. وقوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أزواجهم} يريدُ هو كونَ النكاح بالولي والشاهدين، والمهر، والاقتصارَ على أربع؛ قاله قتادة ومجاهد.
وقوله: {لّكَيْ لاَ} أي: بَيِّناً هذا البيان. {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} ويظن بك أنك قد أثمتَ عند ربّك.

.تفسير الآية رقم (51):

{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)}
وقوله تعالى: {تُرْجِ مَن تَشَاء مِنْهُنَّ...} الآية، ترجي معناه: تُؤَخِّرُ و{تُؤْوِي} معناه: تَضُمُّ وتُقَرب، ومعنى هذه الآية: أن اللّه تعالى فَسَحَ لنبيِّه فيما يفعله في جِهَة النساء، والضميرُ في {مِنْهُنَّ} عائدٌ على مَن تَقَدَّمَ ذكرُه من الأصْنَافِ؛ حَسْبَ الخِلافِ المذكورِ في ذلك، وهذا الإرجاء والإيواء يحتمل معاني؛ منها؛ أن المعنى في القَسْمِ، أي: تُقرِّبُ مَنْ شِئْتَ فِي القسمةِ لَها مِن نَفْسِكَ وَتُؤَخِّرُ عَنْكَ مِن شِئْتَ وتُكْثِر لمن شئت وتُقِلُّ لمن شئت، لا حرجَ عليكَ في ذلك، فإذا عَلِمْنَ هنَّ أنّ هذا هو حكم اللّه لك؛ رَضِينَ وقَرَّت أعينُهن؛ وهذا تأويل مجاهد وقتادةَ والضحاك.
قال * ع *: لأن سبَبَ هذهِ الآيةِ تَغَابُرٍ وَقَعَ بَيْنَ زَوْجَاتِ النبي صلى الله عليه وسلم تَأَذَّى بِهِ.
وقَالَ ابن عباس: المعنَى في طَلاق مَنْ شَاء وإمْسَاك مَن شاء.
وقال الحسنُ بن أبي الحسن: المعنى في تَزَوُّج من شَاء؛ وترك مَنْ شَاء.
قال * ع *: وعلى كلِّ مَعْنًى فالآيةُ معناها: التَوْسِعَة على النبي صلى الله عليه وسلم والإباحة له وذهب هبة اللّه في الناسخ والمنسوخ له إلى أن قولَه {تُرْجِي مَن تَشَاء...} الآية، ناسخُ لقوله: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الآيةَ.
وقوله تعالى: {وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ} يحتمل معاني: أحدها؛ أن تَكونَ {من} للتبعيض، أي: من أردت؛ وطلبَتْه نفسُك ممن كنتَ قَدْ عزلتَه وأخَّرتَه؛ فلا جناح عليك في رده إلى نفسِكَ وإيوائه إليك، ووجه ثانٍ؛ وهو أن يكونَ مُقَوِّياً ومُؤكِداً لقوله: {تُرْجِي مَن تَشَاء} و{تؤوي مَن تَشَاء} فيقول بعدُ ومَن ابتغيتَ ومَنْ عَزَلْتَ فذلكَ سواءٌ؛ لا جناحَ عليك فِي ردِّه إلى نفسِكَ وإيوائه إليك.
وقوله: {وَيَرْضَيْنَ بِمَا ءَاتَيْتَهُنَّ} أي مِنْ نفْسِك، ومالِك، واتفقتِ الرواياتُ على أنه عليه السلام معَ مَا جَعَلَ اللّه له من ذلكَ كان يُسَوِّي بينهن في القَسْمِ تَطْيِيباً لنفُوسِهنَّ؛ وأخْذاً بالفَضْلِ، وما خصه اللّه من الخَلق العظيم صلى اللّه عليه وعلى آله غَيْرَ أنْ سودةَ وَهَبَتْ يومَها العائشةَ تَقَمُّناً لمسَرَّةِ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (52- 55):

{لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)}
وقوله تعالى: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء مِن بَعْدُ} قيل كما قدمنا: إنها حظَرَتْ عليه النساءَ إلا التسْعَ وما عُطِفَ عَليهِنَّ؛ على ما تقدم لابن عباس وغيره، قال ابن عباس وقتادة؛ جَازَاهُنَّ اللّه بذلك، لما اخترنَ اللّه وَرسوله، ومن قال: بأن الإباحَةَ كانتْ له مُطْلَقَةً قَال هنا: {لاَّ يَحِلُّ لَكَ النساء} معناه: لا يحل لك اليهودياتُ ولا النصرانياتُ، ولا ينبغي أن يكنَّ أمهاتِ المؤمنين؛ ورُوِيَ هذَا عَن مجاهدَ وكذلك قَدَّرَ ولا أن تبدل اليهودياتِ والنصرانياتِ بالمسلماتِ؛ وهو قول أبي رزين وابن جبير وفيه بُعْدٌ.
وقوله تعالى: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ ناظرين إناه} هذهِ الآيةُ تُضمنتُ قِصَّتَيْنِ: إحداهما: الأدبُ في أمر الطَّعَامِ والجلوسِ، والثانيةُ: أمرُ الحجَاب.
قال الجمهور: سببُها أن النّبي صلى الله عليه وسلم لما تزوَّج زَيْنبَ بِنْتَ جَحْشٍ، أَوْ لَمْ عَلَيْها؛ ودَعَا النَّاسَ، فَلَمَّا طَعِمُوا، قَعَدَ نَفَرٌ فِي طَائِفَةٍ مِنَ البَيْتِ يَتَحَدَّثُونَ، فَثَقُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَكَانُهُمْ، فَخَرَجَ؛ لِيَخْرُجُوا بِخُرُوجِهِ، وَمَرَّ على حِجْرِ نِسَائِهِ، ثُمَّ عَادَ فَوَجَدَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ، وَزَيْنَبُ فِي البَيْتِ مَعَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلَ وَرَآهُمُ، انْصَرَفَ، فَخَرَجُوا عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأُعْلِمَ أَوْ أَعْلَمْتُهُ بانصرافهم، فَجَاءَ، فَلَمَّا وَصَلَ الحُجْرَةَ، أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ؛ وَدَخَلَ، وَنَزَلَتْ آيَةُ الحِجَابِ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
قال إسماعيل بن أبي حكيم: هذا أَدَّبَ اللّه به الثُّقَلاء، وَقَالَتْ عَائِشَةُ وجماعةٌ: سببُ الحِجَابِ: كلامُ عُمَر للنبي صلى الله عليه وسلم مراراً في أن يَحجُبَ نساءَه، و{ناظرين} معناه: مُنتَظِرينَ، و{إناه}: مصدر أنى الشيءَ يَأْنِي أنيْ، إذا فَرَغَ وحَانَ، ولفظُ البخاري يُقَال: إناه: إدراكُه أنى يأنى إناءة، انتهى.
وقوله تعالى: {والله لاَ يَسْتَحْيِ مِنَ الحق} معناه: لا يقع منه تركُ الحق، ولما كان ذلك يقعُ من البشر لِعلةِ الاسْتِحياءِ؛ نَفَى عنه تعالى العلةَ الموجِبةَ لذلكَ في البشر، وعن ثَوْبَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثٌ لاَ يحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ؛ لاَ يَؤُمُّ رَجُلٌ قَوْماً؛ فَيَخُصَّ نَفْسَهُ بِالدُّعَاءِ دُونَهُمْ؛ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانهُمْ، وَلاَ يَنْظُرُ فِي قَعْرِ بَيْتٍ؛ قَبْلَ أنْ يَسْتَأْذِنَ؛ فَإنْ فَعَلَ، فَقَدْ خَانَ، وَلاَ يُصَلِّي وَهُوَ حَاقِنٌ حتى يَتَخَفَّفُ» رواه أبو داود واللفظ له، وابن ماجه، والترمذي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ، ورواه أبو داود أيضاً من حديث أبي هريرة، انتهى من السلاح.
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا...} الآية، هي آية الحجَابِ، والمتَاعُ عام في جميع ما يمكن أن يُطْلَب من المَواعِينِ وَسائر المرَافِق، وباقي الآية بيِّنٌ. وقد تقدَّم في سورة النور طَرْفٌ من بَيَانِه فَأَغْنَى عن إعادته.